السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
هذه مناظرة بين العين والقلب أنقلها لكم من روائع ابن القيم الجوزية
رحمه الله و أثابه الله على مؤلفاته القيمة .. فكانت له بإذن الله علم
ينتفع به لا ينقطع معينه بعد وفاته إن شاء الله سبحانه !!
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما:
لما كانت العين رائداً، والقلب باعثاً وطالباً، وهذه لها لذة الرؤية، وهذا له لذة الظفر، كانا في الهوى شريكي عنان،ولما وقعت في العناء، واشتركا في البلاء، أقبل كل منهم يلوم صاحبه ويعاتبه.
فقال القلب للعين: أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات، وأوقعتني في الحسرات بمتابعتك اللحظات، ونزهت طرفك في تلك الرياض، وطلبت الشفاء من الحدق المراض،وخالفت قول أحكم الحاكمين" قل للمؤمنين" وقول رسوله صلى الله عليه وسلم " النظر إلى المرآة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركه(من)خوف الله عز وجل أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه" ( رواه الإمام أحمد)
وعن علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نظر الرجل في محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم، فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسر ".
فمن الملوم سوى من رمى صاحبه بالسهم المسموم؟ أو ما علمت أنه ليس شيء أضر على الإنسان من العين واللسان؟ فما عطب أكثر من عطب إلا بهما، وما أهلك أكثر من هلك إلا بسببهما، فلله كم من مورد هلكة أورداه، ومصدر رديء عنه أصدراه، فمن أحب أن يحيا سعيداً آو يعيش حميداً فليغض من عنان طرفه ولسانه ليسلم من الضرر،فانه كامن في فضول الكلام وفضول النظر. وقد صرح الصادق المصدوق بأن العينين تزنيان وهما أصل زنى الفرج، فإنهما له رائدان، وإليه داعيان، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمر السائل أن يصرف بصره، فأرشده إلى ما ينفعه ويدفع عنه ضرره، وقال لابن عمه علي رضي الله عنه محذراً له مما يورث الحسرة: لاتتبع النظرة أو ما سمعت قول العقلاء: من سرح ناظره، أتعب خاطره، ومن كثرت لحظاته، دامت حسراته، وضاعت عليه أوقاته، وفاضت عبراته، وقول الناظم:
نظر العيون إلى العيون هو الذي جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلاً
ما زالت اللحظات تغزو قلبه حتى تشحط بينهن قتيلاً
وقال آخر:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
تمتعتما يا مقلتي بنظرة =وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه =من الظلم سعي اثنين في قتل واحد
[/poet]
إتهام القلب بالسبق في المعصية على لسان العين:
قالت العين: ظلمتني أولاً وأخراً، وبؤت بإثمي باطناً وظاهراً، وما أنا إلا رسولك الداعي إليك، ورائدك الدال عليك.
وإذا بعثت برائد نحو الذي تهوى وتعتبه ظلمت الرائد!!
فآنت الملك المطاع،ونحن الجنود والأتباع. أركبتني في حاجتك خيل البريد، ثم أقبلت علي بالتهديد والوعيد. فلو أمرتني أن أُغلق علي بابي، وأرخى علي حجابي، لسمعت وأطعت، ولما رعيت بالحمى ورتعت، أرسلتني لصيد قد نصبت لك حبائله وإشراكه، واستدارت حولك فخاخه وشباكه. فغدوت أسيراً، بعد أن كنت أميراً، أصبحت مملوكاً، بعد أن كنت مليكاً. هذا وقد حكم لي عليك سيد الأنام وأعدل الحكام عليه الصلاة والسلام حيث يقول" إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، إلا وهي القلب ". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. ولو أنعمت النظر لعلمت أن فساد رعيتك بفسادك، وصلاحها ورشدها برشادك، ولكنك هلكت وأهلكت رعيتك، وحملت على العين الضعيفة خطيئتك، وأصل بليتك إنه خلا منك حب الله وحب ذكره وكلامه وأسمائه وصفاته، وأقبلت على غيره وأعرضت عنه، وتعوضت بحب من سواه والرغبة فيه منه, هذا وقد سمعت ما قص عليك من إنكاره سبحانه على بني إسرائيل استبدالهم طعاماً بطعام أدني منه، فذمهم على ذلك ونعاه عليهم، وقال :
" أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير "
فكيف بمن استبدل بمحبة خالقه ووليه ومالك أمره، الذي لا صلاح له ولا فلاح، ولا نعيم ولا سرور، ولا فرحة ولا نجاة، إلا بأن يوحده في الحب ، ويكون أحب إليه مما سواه، فانظر بالله بمن استبدلت؟ وبمحبة من تعوضت؟ رضيت لنفسك بالحبس في الحش، وقلوب محبيه تجول حول العرش. فلو أقبلت عليه وأعرضت عمن سواه لرأيت العجائب، ولآمنت من المتآلف والمعاطب، آم ما علمت أنه خص بالفوز والنعيم ، من آتاه بقلب سليم، آي سليم ممن سواه، ليس فيه غير حبه وأتباع رضاه. قالت:
وبين ذنبي وذنبك عند الناس كما بين عماي وعماك في القياس. وقد قال من بيده أزمة الأمور" فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " .
فصل العين والقلب شريكان في الخير والشر
فلما سمعت الكبد تحاورهما الكلام، وتنولهما الخصام، قالت: أنتما على هلاكي تساعدتما، وعلى قتلي تعاونتما. ولقد انصف من حكى مناظرتكما، وعلى لساني متظلماً منكما:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
يقول طرفي لقلبي هجت لي سقماً=والعين تزعم أن القلب أنكاها
والجسم يشهد أن العين كاذبةً=وهي التي هيجت للقلب بلواها
لولا العين وما يجنين من سقم =ما كنت مطرحاً من بعض قتلاها
[/poet]
فقالت الكبد المظلومة أنتما قطعتماني وما راقبتما الله ، وقال آخر:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
يقول قلبي لطرفي أن بكى جزعاً=تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه بل= أنت حملتني الآمال والطمعا
حتى إذا ما خلا بصاحبه كلاهما= بطويل السقم قد قنعا
نادتهما كبدي لا تبعدا فلقد=قطعتماني بما لاقيتما قطعا
[/poet]
وقال آخر :
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
عاتبت قلبي لما رأيت جسمي نحيلا
فألزم القلب طرفي وقال كنت الرسولا
فقال طرفي لقلبي بل كنت أنت الدليلا
فقلت كفا جميعاً تركتماني قتيلا
[/poet]
ثم قالت : أنا أتولى الحكم بينكما. أنتما في البلية شريكا عنان، كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان. فالعين تلتذ، والقلب يتمنى ويشتهي، ولهذا قال فيكما القائل:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
ولما سلوت الحب بشر ناظري=لقلبي فقال القلب لي ولك الهنا
تخلصت من أحياء ليلك ساهرأو=خلصتني من لوعة الهجر والضنا
كلانا مهنا بالبقاء فإن تعد=لا أنت يقيك الغرام ولا أنا
[/poet]
و إن لم ترككما عناية مقلب القلوب والأبصار، وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار، قال الشاعر:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
فوالله ما أدري أن نفسي ألومها= على الحب أم عيني المشمومة أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين=أبصرت وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تقاسمتما دمي=فيا رب كن عوناً على العين والقلب
[/poet]
قالت: ولما سقيت القلب ماء المحبة بكؤوسك، أوقدت عليه ناراً الشوق فارتفع إليك البخار، فتقاطر منك فشرقت بشربه أولاً، وشرقت بحر ناره ثانياً، قال:
[poet font="Simplified Arabic,14,black,normal,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex char="" num="0,black"]
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب= فانظري ضنى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين= ماؤهاولكنها روح تذوب فتقطر
[/poet]
قالت: والحاكم بينكما الذي يحكم بين الروح والجسد إذا اختصما بين يديه فإن في الأثر المشهور: لاتزال الخصومة يوم القيامة بين الخلائق حتى تختصم الروح والجسد فيقول الجسد للروح: أنت التي حركتني وأريتني وصرفتني، وإلا فأنا لم أكن أتحرك ولا أفعل بدونك. فتقول الروح له: وأنت الذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت، فأنت الذي تستحق العقوبة، فيرسل الله سبحانه إليهما ملكاً يحكم بينهما فيقول: مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي، دخلا بستاناً
فقال المقعد للأعمى: أنا أري ما فيه من الثمار ولكن لا أستطيع القيام، وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام ولكن لا أبصر شيئاً، فقال المقعد: تعال فاحملني فأنت تمشي و أنا أتناول، فعلى من تكون العقوبة؟ فيقول: قال فكذلك أنتما. وبالله التوفيق.
[sound]http://198.65.147.231/anasheed/d2-5.ram[/sound]
فوائد غض البصر أردت كتابتها ولكن كتبتها الأخت ( زنوبيا ) رعاها الله وجزاها الله خيراً - هنا على هذا الربط-.. فأريد لها الأجر بإذن الله وتذكيراُ بمشاركتها!!